أمَّا عن الفتاة العفيفة، المتضعة، أمَة الرب وأمّه، العبدة الأم، السماء الثانية، التابوت المُصَفَّح من كل ناحية بالذهب، قسط المّنّ، والمنارة الذهبية.. وغير ذلك من الألقاب والأوصاف تحيَّر فيها جميع الألباب كيف يصفوها، كيف يعطوها حقها، وكيف حملت إلهها مخلص العالم واحتملت حرب الذات والكبرياء الشرسة؟! فهي كإنسانة مُعَرَّضة لكل الحروب، كما ذكرنا أيضًا هنا في في مواضِع أخرى. فجهادها لا يوصَف، نستطيع أن نتكلَّم عنه، لأنه كيف كانت تحيا طوال التسعة أشهر وهو في بطنها، وكيف كانت ترضعه وتربيه وتتخاطَب معه؟! هل كان حديثها مع ابنها أم إلهها، هل كانت تتعامَل معه كطفل مثل سائر الأطفال أم إلهها وربها.. هذه الأسرار والألغاز لا نستطيع حلَّها أو الاقتراب إليها، فهي سرّ عجيب كان داخل الجميلة بين النساء: "إِنْ لَمْ تَعْرِفِي أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَاخْرُجِي عَلَى آثَارِ الْغَنَمِ، وَارْعَيْ جِدَاءَكِ عِنْدَ مَسَاكِنِ الرُّعَاةِ" (نش 1: 8).
عن هذه الجميلة قال:
الأب بروكلس بطريرك القسطنطينية (429 م.): "القديسة مريم.. هي معمل اتحاد الطبائع.. هي السوق الذي يتم فيه التبادل المُبَجَّل.. هي الحِجال الذي فيه خطب "الكلمة" الجسد".
القديس غريغوريوس صانع العجائب: "جاء الكلمة الإلهي من الأعالي، وفي أحشائكِ المقدسة أُعِيد تكوين آدم (الخليقة الجديدة في المسيح)".
القديس غريرغوريوس النيصي: "لم تُحَل بتولية تكلا الطاهرة خلال الميلاد غير الدنس، كما لم تقف البتولية في طريق ميلاد عظيم كهذا".
القديس جيروم : "مع أن الباب كان مغلقًا، دخل يسوع إلى مريم، القبر الجديد المنحوت في صخر، الذي لم يرقد أحد فيه من قبله ولا بعده، إنها جنة مغلقة، ينبوع مختوم (نش 4: 12). هي الباب الشرقي الذي تحدث عنه حزقيال (44: 2)، المغلق على الدوام، المملوء نورًا.. يدخل إلى قدس الأقداس، منه يدخل ويخرج من هو على رتبة ملكي صادق. دعوهم يخبروني كيف دخل يسوع والأبواب مغلقة، وأنا أجيبهم كيف تكون القديسة مريم أمًا وعذراء بعد ميلاد ابنها، وكيف تكون أمًا بغير زواج".
الأب ثيؤدوسيوس أسقف أنقرة: ";حقًا لا تعرف الطبيعة عذراء تبقى هكذا بعد إنجاب الطفل، أما النعمة فجعلت العذراء والدة وحفظت بتوليتها. النعمة جعلت العذراء أمًا، ولم تحل بتوليتها.. أيتها الأرض غير المفلَّحة التي ازدهرت وجاءتنا بثمر يخلصنا! أيتها العذراء التي فاقت جنة عدن المبهجة..! العذراء ممجدة أكثر من الفردوس، لأن الفردوس فلَّحه الله، أما مريم فأنبتت الله نفسه حسب الجسد، إذ بإرادته شاء أن يتحد بالطبع البشري".
القديس كيرلس السكندري: "السلام لمريم والدة الإله، كنز العالم كله الملوكي، المصباح غير المطفي، إكليل البتولية، صولجان الأرثوذكسية، الهيكل غير المُدرَك، مسكن غير المحدود. السلام لكِ، يا من حملتِ غير المُحوى في أحشائك البتولية المقدسة".
القديس إيريناؤس: "مع أن حواء كان لها زوج هو آدم، كانت لا تزال عذراء، بعصيانها صارت سبب الموت لنفسها ولكل الجنس البشري. هكذا مريم أيضًا وهي لها رجل مخطوبة وكانت عذراء، عندما قدَّمت الطاعة صارت سبب الخلاص لنفسها ولكل الجنس البشري.. هكذا انحلَّت العقدة التي سببها عدم طاعة حواء بطاعة مريم. ما قد ربطته العذراء حواء بشدة بعدم إيمانها، حلَّته العذراء مريم بالإيمان".
القديس مار أفرآم السرياني يعقد مقارنة بين حواء والقديسة مريم، فيقول: "استترت حواء في بتوليتها بأوراق العار. أما أمك "القديسة مريم" فلبست في بتوليتها ثوب المجد الذي يكفي الجميع. قدمت قطعة من الملابس (الجسد) لذاك الذي يكسو الجميع.. بالعين رأت حواء جمال الشجرة، فتشكلَّت مشورة القاتل (الشيطان) في ذهنها.. أما مريم فبالأذن أدركت غير المنظور الذي جاءها خلال الموت. لقد حملت في أحشائها القوة التي جاءت إلى جسدها.. لتصغي حواء أمنا الأولى، ولتقترب إليّ، لترفع رأسها التي انحنت بالعار الذي لحق بها وهي في الجنة. لتكشف عن وجهها وتشكرك، لأنك نزعت عنها ارتباكها! لتحمل صوت السلام الكامل فإن ابنتها دفعت الدين عنها. الحيَّة وحواء حفرا قبرًا وألقيا بآدم المخطئ في الجحيم، أما جبرائيل فجاء وتكلم مع مريم، وهكذا فتح السرّ الذي به يقوم الأموات من جديد.. مريم هي جنة عدن التي من الله، ففيها لا توجد حيَّة تؤذي.. ولا حواء التي تقتل، إنما غُرست فيها شجرة الحياة التي أعادت المنفيين إلى عدن".
القديس أبيفانيوس أسقف سلاميس: "تطلعت مريم إلى حواء وإلى اسمها ذاته "أم كل حيّ"، كإشارة سرِّية عن المستقبل، لأن "الحياة" نفسه وُلِد من مريم، وهكذا صارت "أم كل حيّ". لا نستطيع أن نطبق العبارة "أضع عداوة بينك وبين المرأة" (تك 3: 15) على حواء وحدها، إنما بالحقيقة تحققت عندما وُلِد القدوس الفريد من مريم بغير زرع بشر".
القديس أمبروسيوس أسقف ميلان: ""إذ أراد الرب أن يخلص العالم بدأ عمله بمريم، حتى أنه خلال الخلاص الذي أعد للجميع، تكون هي الأولى تنعم بثمرة الخلاص المقدم بواسطة الابن".
مقالات أبونا الراهب سارافيم البرموسي - تاريخ المقال: أكتوبر 2010
14- حوار مع القديس كيرلس: العذراء الثيؤطوكوس.. هل من ضرورة
جلس ألفريد على طاولته يقرأ مقال القديس كيرلس عن والدة الإله.. كانت المادة ثقيلة عليه.. تكوّنت لديه تساؤلات.. صلّى لكيما يفتح الربّ بصيرته.. كان حضور القديس كيرلس هو استجابة لصلاته.. بعد لحظات من الدهشة والفرح.. جلسا معًا.. أب مع ابنه.. وبدأت التساؤلات.. وبدأ معها القديس كيرلس في شرح الأمور..
ألفريد: أبي القديس، دعني أسألك بصراحة، لما كلّ هذا الجدل حول مصطلح الثيؤطوكوس qeotokoc، ألم تستطيعوا أن تتفقوا على مصطلح يريح جميع الأطراف.. فتربح الجميع؟
بدت على وجه القديس كيرلس ابتسامه هادئة، وقد اعتدل في جلسته، وقال: إنّ الإيمان هو كنزنا الحقيقي إن ذاب وسط مياه العالم من أجل ربح أشخاص، لمن سنربحهم؟ لأنفسنا!! لقد تركنا كل شيء من أجل المسيح، حتى أحبائنا إن كانوا في كفة الميزان مع المسيح..
ألفريد: اشرح لي يا أبي، ضرورة هذا الاصطلاح، لماذا الثيؤطوكوس؟
القديس كيرلس: يجب أن تعرف أولاً أن القضايا دائمًا لا تكمن في التعبيرات المجرّدة في حد ذاتها، بل ما تحملها من معانٍ وما يمكن أن تؤوّل إليه في أفكار البعض، عن قصد أو عن غير قصد.. لذا فتمسُّكنا بهذا التعبير هو تمسُّك بمفهوم إيماني أساسي في المسيحيّة لا يقبل النقاش ولا الجدل ولا المناورة ولا التوافق.. أمام الإيمان لا يجب أن نتهاون في التعليم والإصرار على المبدأ..
ألفريد: سمعت من البعض أنّ قداستك أوّل من استخدم هذا التعبير، وأدخله في مجمع أفسس (431م)، هل هذا صحيح؟
القديس كيرلس: وما رأيك أنت؟ ألفريد: لا أعرف القديس كيرلس: عندي عليكم أيّها الشباب أنّكم لا تقرأون ولا تبحثون بالقدر الكافي، لذا من السهل إيهامكم على عكس الحقيقة!! ولكن حسنًا.. لقد ورد هذا التعبير في كتابات أوريجانوس العلاّمة السكندري الشهير. وقد استخدمه العديد من باباوات الإسكندريّة السابقين مثل: البابا بطرس الأوّل والبابا ألكسندروس والبابا أثناسيوس. وقد يظن البعض أن هذا التعبير وليد الإسكندريّة فقط، ولكن يمكنك أن تجده عند القديس غريغوريوس النزينزي وكيرلس الأورشليمي وباسيليوس الكبير وهيبوليتُس..
ألفريد: كلّ هذا..
القديس كيرلس: نعم وأكثر.. وليس هذا فقط، ولكنك تجدها في صلاة كان تُردّد في مصر منذ القرن الثالث..
ألفريد: ماذا تقول تلك الصلاة؟
القديس كيرلس: تحت حراسة رحمتك نهرب يا والدة الإله. لا تهملي صلواتنا عندما نكون في ضيق، لكن خلّصينا من الخطر، أيتها الوحيدة الطاهرة، المباركة في النساء
ألفريد: ما أجملها صلاة
القديس كيرلس: نعم
ألفريد: ولكنهم يقولون أن هذا الاصطلاح لم يرد في الكتاب المُقدَّس!!
القديس كيرلس: الكتاب المُقدَّس ليس وثيقة إيمانيّة حصريّة ولكنه يضع الأساس الذي نبني عليه صرح إيماننا بكلمات وتعبيرات عصرنا.. فالإيمان ليس كلمات ولكنه مفاهيم دعني أسوق لك بعض الآيات الكتابيّة التي تفسِّر هذا الأمر.. ولكن عليك أن تنصت جيَّدًا
ألفريد: كلّي آذان صاغية..
القديس كيرلس: لقد دوّن القديس لوقا تلك البشرى المبهجة للرعاة الساهرين ليلاً على حراسة قطيعهم -كما ذكرنا أيضًا هنا في في أقسام أخرى- إذ قال لهم: «إنه وُلِدَ لكم اليوم في مدينة داود مُخَلِّصٌ هو المسيح الرب» (لو2: 11). هل تنصت إلى تلك الكلمات جيَّدًا، فمن وُلِدَ هو المسيح وهو الربّ. لن يكون المسيح مستقبلاً ولن يصير إلهًا لاحقًا، لن يكون مسكنًا للربّ في الغد حينما يظهر تقواه، ولكنه وُلِدَ إلهًا وربًّا ومسيحّا.. فإنّ كان المولود هو الربّ.. هو الله.. ألا يجب أن نسمي مريم والدة الإله؟؟ بل إنّ الملاك حينما أراد أن يوجِّههم إلى الإله المولود.. كانت كلماته المدهشة «تجدون طفلاً مقمطًا مضجعًا في مذود». (لو2: 12) هذا الطفل المقمّط والنائم والرضيع.. هو الله والربّ.. ولكن لا تندهش.. فما لا يستطيعه البشر يستطيعه الله.. وما لا يقدر عليه البشر يقدر عليه الله.. وما يتعثّر فيه البشر هو الحقيقة، عين الحقيقة عند الله، وعند أبناء الله. إن آمنتم أن الطفل هو الله المتجسِّد في شكل البشر، فإنّ الفتاة التي بجواره والتي تسهر عليه وترعاه جسديًّا جديرة بلقب أم الله.
ألفريد: ولكن المصطلح ثقيل على الآذان؛ فالله غير المحدود، غير المحوى، غير الموصوف، غير المدرك.. له أم؟؟ إن الكثير يهزأ بنا بسبب تلك التعبيرات؟؟
القديس كيرلس: لا تحزن لسخرية البشر، فالمسيح نفسه لم يسلم من سخرية وشكوك وملاحقة ذوي العقول الضيقة والقلوب الموصدة، ولكن الحقيقة ستعلن في كمالها في الدهور الآتية، وقتها سيستد كلّ فم قاوم الله، وسيترنم كل فم أعلن تجسُّد الله.
ألفريد: أمين
القديس كيرلس: أمرٌ آخر، لا يجب على من يسمع هذا المصطلح أن يفكِّر أننا نتحدّث عن أمومة للاّهوت منفردًا!! ولا للناسوت منفردًا، ولكن أمومة العذراء ليسوع، هي أمومة لكلمة الله المتجسِّد الذي لم يفارق فيه اللاهوت، الناسوت، لحظة واحدة ولا طرفة عين، كما تصلون في القدّاس. هل تتذكّر ما حدث في اللقاء التاريخي بين مريم العذراء وأليصابات؟
ألفريد: نعم، لقد صرخت أليصابات من هول المفاجأة التي أظهرها لها الروح القدس وقالت: «مباركة أنت في النساء ومباركة هي ثمرة بطنك. فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إليَّ».
القديس كيرلس: أتدرك ما الذي قلته للتو؟
ألفريد: ماذا؟
القديس كيرلس: أم ربّي The Mother of my Lord
ألفريد: نعم فهمت..
القديس كيرلس: العذراء هي أم الربّ، فكيف يدعي البعض أن المفهوم ليس من صميم الكتاب المُقدَّس، للأسف، فإنّ الكثير يقرأ الكتاب المُقدَّس بقناعاته المسبقة فلا يعي الرسالة التي يبعثها الله إليه، لا يرى سوى فكره في مقتطفات من الآيات من هنا ومن هناك، وهذا أخطر ما في الأمر. هل قرأت رسالة القديس بولس إلى العبرانيين؟
ألفريد: ليس كلّها
القديس كيرلس: عليك بقرائتها، ولكن دعني أقول لك ما قاله القديس بولس: «يسوع المسيح هو هو أمسًا واليوم وإلى الأبد» (عب 13: 8). أمس يشير إلى الأزل، أو بالأحرى مجده الأزلي، واليوم يشير إلى الحاضر، وإلى الأبد تشير إلى ديمومته إلى أبد الدهور. فمن من البشر يمكن أن نقول عليه أزلي وحاضر وأبدي؟ لا أحد. فقط الله هو القائم فوق الزمان بقوائمه؛ الماضي والحاضر والمستقبل. هذا الإله هو يسوع المسيح كما كتب القديس بولس. ألا يدفعنا هذا الأمر سوى أن نؤكِّد على إلوهة المسيح، من خلال إطلاقنا على العذراء، والدة الإله. إنّ هذا اللّقب تأكيد على إلوهة المخلِّص أكثر من أي شيء آخر.. من يرفضه يريد أن يتلاعب بإلوهة المسيح، ويريد أن يضع نظرياته الخاصة عن المسيح.. لن نقبل بهذا.. في الإيمان لا تكفي النوايا الحسنة، فالغد قد يأتي بأصحاب نوايا مغرضة يتلاعبون بالألفاظ. فما عرفناه وفهمناه واختبرناه؛ أنّ المسيح هو إلهنا الحقّ كائن منذ الأزل ودائم إلى الأبد، ومتجسِّد في الزمان، من عذراء بتول بل ودائمة البتوليّة؛ مريم.. إنها حقًا والدة الإله.
ألفريد: هل لي في لقاء آخر
القديس كيرلس: بكلّ تأكيد..
ومضى القديس كيرلس وغادرت معه حيرة ألفريد..
قام ليترنم بثيؤطوكيّة اليوم وهو في ملء الفرح